الخميس، أكتوبر 25، 2012

شتاء ’’ دافئ..!!


الاثنين 22 أكتوبر 2012م
كنت أغفو على الكنبة في الصالة لحظة صرخت كل النوافذ فزعا من شدة الهواء...
ليجيبها صراخ الأبواب  بفزع أشد...
لكن  الفزع الذي لدغ غفوتي كان فزعي...
نهضت أتخبط ..
لا أدرك للموقف ملامح...
غير أني بحركات فوضوية رحت أتنقل بين غرف المنزل وممراته أغلق كل النوافذ والأبواب ...
لأجدني محاصرة وسط صالة طويلة عريضة...
كنت وحدي وجها لوجه مع ليلة من ليالي الشتاء الذي بدأ يزحف نحو الكون...
عدت إلى تلك الكنبة ...
تكومت على نفسي ...
ضممتُني بقوة ...
وطوقت جسدي بغطاء الصوف الملقى قربي على حافة الكنبة...
هذا الغطاء صنعته لي  جدتي بيديها منذ سنوات بعيدة...
ما زالت  خيوطه عبقة بأمنياتها ودعواتها لي بأن يحتضن هذا الغطاء يوما طفلي ...
الآن أنا أحوج إليه من طفلي الذي يرفض المجيء رغم فرط شوقي إليه....
يا إلهي  ما أوسع مساحة الأمان التي نشرتها خيوط الصوف هذه على ضعفها...
أهي خيوط الصوف المعتقة بأمنيات جدتي؟؟
أم هو الطفل الذي ســ يجيء؟؟؟
لا يهم أيهما كان سبب طمأنينتي .. المهم أني في مأمن تام من مخالب الشتاء التي  اعتدت مباغتتها لي ,,  لتنغرس في روحي .. في أعمق أعماق روحي .. تستنزف وجودي .. وتريق أنفاسي ببرود هو لها ميزة أكرهها...
أكره الشتاء.. أبدا لم أحبه يوما...
ترعبني حبات المطر وهي تتكسر على الأرض والمباني والأشياء ..
تخيفني أوراق الشجر وهي تنتحب وتنوح  على يدي  تيارات الهواء التي تصفعها بقسوة ووحشية ...
تفزعني صرخات الأبواب والنوافذ الحائرة...
تميتني السماء وهي تنتفض محمومة بأسرارها المظلمة...
أكره الشتاء بكل أيامه ولياليه  ...
بكل ملامحه وتفاصيله وطقوسه..
لكنني الليلة مجردة من كل الكره المختمر في ذاكرتي عبر سنوات عمري الماضية...!!
كانت عيناي تتصفح السماء القابعة خلف تلك النافذة الملقاة على الجدار المنزوي في نهاية ممر يوازي غرفة المكتب...
وحواسي بكل خشوع تنصت إلى انكسار حبات المطر  ونواح الأشجار ..
أفلتُ جسدي من بين خيوط الصوف الملتفة حوله كرحم أم  التفت كل أنسجته وخلاياه حول جنينها...
توجهت إلى غرفة المكتب..
فتحت الباب ..أشعلت الضوء..
بدت لي المسافة بين الباب والنافذة على الجدار المقابل له طويلة جدا...
كما لو أن لا نهاية لها...
كانت يدي تروح وتجيء بين  النافذة وبيني ...
وبعد لحظات من التردد ضقت بها حطت يدي بثبات على زجاج النافذة..
فتحتها ...
اندفع الهواء ثائرا عبرها ولم يخمد ثورته إلا الباب الذي قطع الطريق عليه...
أجفلني صوت الباب ...
لكن يدي بقيت عالقة على زجاج النافذة ...
كما لو أنها ملتصقة به.. كما لو أنها جزء من تلك النافذة..
شعرت وأنا أشدها إلي بشعور لم أفهمه..
شعرت أني  أسرق يدي من النافذة؟!!
بعدما أعدت يدي إلي أخذت أحدق في أصابعي وهي تتحرك  بأمري لأتأكد أنها  حق مشروع لي..!!!
استمرت سيمفونية الليلة الشتائية لساعتين تقريبا ...
خلالهما لم أفعل شيء سوى الترنح بين غرف المنزل ..
بين النوافذ  والأبواب ...
أترنح مثقلة بمشاعر لا أفهمها..
على أنغام تلك السيمفونية ...
إيقاع متناغم بين مشاعري المجهولة الهوية وسيمفونية الشتاء الغامضة ...
وصمت كل شيء...
صمت الانكسار والنواح ..
لم يبقى من تلك الأشياء إلا رائحة مبهمة تفوح بها جزيئات الهواء ..
الهواء الذي توشحني   حين وقفت تحت السماء في حديقة المنزل..
وقفت مجردة من الجدران  والأبواب والنوافذ...
عارية من غطاء جدتي..
من ذاكرة مكدسة بكرهي للشتاء...
توشحني بمكر ..
هذه الرائحة أعرفها..
أغمضت عيني ..
أغمضت حواسي ..
أغمضت يقظتي..
وحدها ذاكرتي التي حرصت على بقائها يقظة متنبهة ..
رحت أفتش فيها عن هذه الرائحة...
أنبش مخزونها علي أجد لها هوية أعرفها بها...
عبثا أن أجد ما يبطل مكيدة الهواء الذي بقي يستفزني ...
أغلقت ذاكرتي وفتحت عيناي ...
نظرت إلى السماء ...
إلى اليوم الذي بدأ يستيقظ...
يا الله ما أجمل هذه السماء ..
ما أجمل هذه الغيوم المتزاحمة ...
وما أجمل الأسرار المخبأة فيها...
كانت العصافير تظهر فجأة  وتختفي كما ظهرت  ...
كدعواتنا التي تقفز على ألسنتنا فجأة عند سقوط أول قطرة مطر من السماء...
لتختفي لحظة تتكسر قطرة  المطر على الأرض...
ضحكت حين أطل صوت أختي   علي من خلف نافذة المطبخ
((ناديا ادعي الدعوة مستجابه في المطر))
رحت أضحك وأنا أقفز حول أعمدة  دالية العنب.؟!!
كنت أضحك وأقفز  بعفوية الأطفال وعبثهم..
وأختي تنظر إلي باستنكار ...
((انا بحكيلك ادعي وانتي بتضحكي؟؟))
توقفت عن القفز ونظرت إليها بمحبة غمرتني نحوها...
قلت لها وضحكتي لم تفارق وجهي ولا روحي
((الشتاء يا صغيرتي  في حد ذاته دعوة))
لكن كلماتي لم تفلح في امتصاص غضبها الجميل..
لذا أغلقت النافذة وهي منفعلة  ...
هربت آخر أحرفها من خلف النافذة قبل أن تنغلق على استنكارها لطفولتي المتأخرة
((هذا اول شتا النا في البيت الجديد وانتي بتستهبلي))...
((اول شتا؟!!))
اخترقتني هذه الأحرف ...
وبقيت أترنم بها وأنا أصعد الدرج إلى منزلي الحبيب...
((اول شتا
اول شتا))
  حقا أول شتاء أعرفه  في حياتي ...
عدت إلى كنبة الصالة وفي يدي فنجان قهوتي ...
رائحة القهوة التي بعثرها الهواء المتسلل من النافذة  امتزجت برائحة أماني جدتي ودعواتها المغزول بها هذا الغطاء لتعيد  لذاكرتي ذاكرتها..  لتتعرف على هوية تلك الرائحة التي كان الهواء يستفزني بها...
أنها رائحة الحنين المنبعث من ذاكرتي ...
الحنين  الذي يفوح من كل ذكريات الأمس...
أخذت أكمل ارتشاف قهوتي ..
داخلي مليء بالفرح والرضا..
وحولي مليء بالأمان والوعود ...
وحده صوت عجلات السيارات وهي  تفرق جمع حبات المطر  من على الطرقات يؤكد لي أنه برغم كل هذا الهدوء الذي يغمرني ويحيط بي إلا أنني في فصل الشتاء ..!!..
لم أحب الشتاء يوما...
لكنني أبدا لن أعود لمثل هذا ما حييت ....


ناديا الشراري
الشتاء الأول في حياتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق