الثلاثاء، نوفمبر 16، 2010

عابر سبيل


((سنوات من العمر تمضي بي ..كثير من الجراح تمزقني..ذكريات زمنٌ يسكنني..بقايا أحبة تمتلكني...
يحتويني كم هائل من مشاعر لا أدرك ماهيتها...
تتخبط روحي حيرى بين جدران اليأس))...
كان صوتها الدليل الحي على أنها هنا...
كل شيء حولها ليس إلا جثةٌ هامدة..لكأنه مسكن للأشباح فقط...وحدها هي الشبح الناطق في المكان..ملامحها باهتة جدا..جسدها مرهق بالكاد يحمل ملابسها السوداء...
جلست متعبةٌ في زاوية باردة وضعت رأسها بين يديها..تصرخ بجنون ماذا أفعل؟؟ماذا أفعل؟؟...
يصطدم صوتها في جدران موحشة فيعود صداه مسرعا ليصفعها بقسوة...
نسمة هواء غريبة اجتاحت المكان فجأة..ابتسمت ربما تحمل أملا ينقذنها .. تنفستها بشوق..فكادت تختنق بها..سمومٌ من جحيم هي..
نهضت بتكاسل..سارت بخطوات ثقيلة..جلست إلى طاولة في آخر الغرفة..تناولت القلم وهي تتمتم بيأس ((سأكتب له..نعم لا بد أن أكتب له))...
كل ما فيها ينتفض بعصبية..قلبها يديها..شفتيها..حتى عيناها الحزينة...
أخذت تغرق بياض الأوراق بسواد ضياعها...
((حبيبي الغالي...
لا أعلم ماذا أقول لك..لكن ما أعلمه جيدا أنني أحتاج إليك..نعم أحتاج لوجودك قربي..تعبت كثيرا من وحدتي..يئست من خوفي ..غيابك يقتلني..غيابك يدمرني..عد إلي ..حيث كنت ..دع كل شيء و عد حالا ...عد فما عدت قادرة على الإستمرار دونك..عـ..))..
توقفت يدها عن الكتابة ..لكأنها تعلم أن كل شيء مجرد وهم..أخذت تمزق الورقة وهي تبكي بشدة وصوتها يرتجف بيأس ((ولما أكتب لك وكلماتي لن تصلك أبدا..تبا لك ..تبا لي أنا ..تبا لقلبي الذي يهواك))..
وضاع السكون في صراخها الباكي...
ومضت ساعة تلو أخرى وهي حيث تجلس ..منكسرة..محطمة..
جاء صوت الباب مفزعا لها..قفزت من مكانها مرعوبة..فمن سيذكر أعتابها في هذا الوقت؟؟...
على رؤوس أصابعها سارت نحو الباب..وبهمسات بالكاد تخطت شفتيها ((من الطارق؟؟..))
((أنا عابر سبيل ..أريد ماء فقد نفذ الماء لدي))...
جاءها صوته من خلف الباب الخشبي ممزقا ..أضناه التعب..
بيدين مترددتان أمسكت بمقبض الباب..فتحته بحذر..نظرت من خلفه..فوجدته أمامها..رجلا في الثلاثين من عمره..جميل الملامح..عذب التفاصيل..
وجهه باسم..من الذين ترتاح لهم منذ النظرة الأولى..
ابتسامته منحتها الطمأنينة..فشرعت الباب مرحبة به((تفضل))...
دخل على استحياء..((شكرا لك..لا أريد أن أزعجكم ولكن نفذ الماء لدي ولم أجد إلا هذا البيت قريبا مني فقد سرت كثيرا و..))..
((استرح ها هنا حتى أحضر لك شيئا تشربه))...أشارت بيدها نحو الطاولة ...
((سأعد لك القهوة ما رأيك؟..))
((لا بأس ولكن لا أريد إزعاجكم))..
أخذت تجهز القهوة متجاهلة كلماته ..وفي لحظات عبق المكان برائحة القهوة..
جلست أمامه وناولته فنجانا..ارتشفت رشفة من فنجانها..ثم نظرت إليه((لا تشغل بالك بعدم إزعاجنا فلا أحد هنا سواي كما ترى..))..
علت الدهشة ملامحه..ولاح في عينيه ألف سؤال..لاحظت هي ذلك..ابتسمت فقد كانت حيرته تزيده جمالا..((لا تتعجب..فأنا هنا وحدي منذ سنوات..كل من كان هنا رحل ..منهم من عاد حيث أتى..إلى الأرض..ومنهم من غاب حيث لا عنوان..))...
كلماتها الممزوجة بابتسامة منحته تصريح الحديث ((لكن كيف تسكنين هنا وحدك؟؟..أنت شابة وجميلة ألا تخافين من البقاء هنا ؟؟..لما تعيشين في منطقة مقطوعة كهذه؟؟..ما لذي يبقيك هنا؟؟))..
((لا شيء يبقيني..لكن لا مكان آخر لدي سوى هذا المكان..لا تشغل بالك فمنذ سنوات وأنا وهذا المكان معا اسكنه ويسكنني ..ومما سأخاف وأنا هنا ..الخوف مصطلح لا أعرفه ..شعورا تعودته حتى أصبح الخوف مني يخاف))..
((غريب أن تعيش فتاة وحدها في مكان كهذا..عذرا لتطفلي ولكن المنطقة مقطوعة ولا أحد يسكن في الجوار لما لا تتركين هذا البيت وتسكنين في المدينة أفضل بكثير))..
((المدينة تتعبني..أصوات الناس ترهقني..الازدحام يخنقني..عندما أذهب للمدينة لقضاء حاجة معينة أجدني أترك كل شيء و أسرع في العودة إلى هنا..أما قلت لك أن هذا المكان يسكنني))...
صمتا وما عاد سوى صوت الهواء يتحدث في المكان...
عندما أنهى قهوته نهض من مكانه و أغلق أزرار معطفه((شكرا لإستقبالك لي..وشكرا على هذه القهوة اللذيذة..فرصة سعيدة أنني تعرفت إليكِ))
مد يده مصافحا..لكنها بخلت بيدها عليه((إلى أين ستذهب في هذا الوقت المتأخر؟؟ثم أن الجو كما ترى بارد جدا ولن تجد أحدا في هذا المكان سواي..إبقى هاهنا الليلة وغدا إرحل حيث شئت))...
لم تنتظر رده..نهضت متجهة نحو الموقد لتشعل النار ...كانت منشغلة في وضع الحطب ...بينما هو جلس على مقعده لا يجد شيئا يقوله...كان صوت فرقعة الحطب يقهر الصمت الذي خيم على الموقف...
سارت نحو الطاولة و أخذت الفناجين من عليها..التفتت نحوه((أترغب بكوب آخر من القهوة؟)) ..
((بالطبع ))..
((اذهب و اجلس قرب النار سأحضر لك القهوة ))...
جلس على مقعد قريب من الموقد..طافت عيناه في أرجاء المكان..هنا صور وهنا صور وهنا صور...وكأن الجدران أضحت معرض صورا حتى لا تكاد تتبين لونها من خلف الصور التي تغطيها...((كل هذه صور؟!!))
((لم يعد لي منهم سواها لذا أملأ المكان بها..صورهم ترحم قلبي من إشتياقي إليهم..بوجودها لا أشعر بحرقة غيابهم))...
((تفضل القهوة))..ناولته الكوب وجلست على مقعد مقابل له...
((هل يمكنني أن أتحدث إليكِ بصراحة دون أن يغضبك حديثي؟؟))..
((بالطبع تحدث كما تشاء فمنذ زمن لم اسمع صوت بشر هنا))...
وضع الكوب على الطاولة التي أمامه وإعتدل في جلسته...
((لما أجد الحزن يسكن معالمك..وكأنك ترفضين الحياة..لما أنت يائسة هكذا؟؟))...
تنهدت بعمق و أرخت ظهرها على المقعد...أخذت الكلمات تنساب من شفتيها وعيناها عالقتان بالسقف..
((لست حزينة ولا أعرف لليأس عنوان..لكن كل الحكاية أنني ما زلت أنتظر..مضت سنوات و أنا أنتظر..ولا أعلم هل لهذا الإنتظار نهاية؟...ربما ملامحي ترسم عناء سنوات الإنتظار فيخالها الناظر إلي يئسا ...لا أنكر أنني تعبت جدا و أنا أعد الأيام فلا تنتهي..إنما لا شيء أملكه سوى ما أنا عليه..))
((ولكن لما تنتظرين؟؟قد لا يعود من تنتظريه..فلما توقفين حياتك على إحتمال ربما لن يتحقق أبدا؟..دعي الخلق للخالق وعيشي حياتك بشكل طبيعي فالحياة أجمل من أن نضيعها في أحزان..و أقصر من أن تهدر في الأوهام))....
نظرت إليه نظرة حزينة..((هل تدخن؟..))
تفاجأ بسؤالها((نعم))..
نهضت تسير نحو الغرفة الأخرى و صوتها يرن في المكان((ربما تكون محقا ولكن في الحياة خطوات نسيرها رغما عنا..هناك طرقا عندما نتجاوزها لا يمكننا العودة..و أنا إتخذت طريقي في إتجاه لم أتمكن من الهروب منه..)))...
عادت تحمل في يديها علبة السجائر...جلست حيث كانت ومدت له سيجارة((شكرا))...
أشعلت سيجارة و أخذت تدخن ..تنفث الدخان و كأنها تنفث بقايا من روحها معه...
و أردفت تقول((يا عزيزي لكل شيء نهاية إلا الإنتظار..هو سجن ما إن يحتجزك حتى تظل طيلة سنوات عمرك أسيرا لديه..كم من مرة تمنيت الهروب من هنا..عزمت على الرحيل كثيرا..لكن في كل مرة تخونني شجاعتي..تخذلني خطواتي..فأجدني أتعمق هنا أكثر من ذي قبل..حتى كرهت فكرة مغادرة المكان..من قال أنني أرغب في البقاء هكذا..الوحدة تقتل يا صديقي تلتهم روحك دون رحمة..تفترس أيامك بلا شفقة..ثم تلقي بك ميتا على قيد الحياة..ليتني أملك السبيل للهروب من هنا..ليتني أجد القدرة على الفرار بما بقي من أيامي..لكن ضاعت السبل..و تاهت الطرق..فما العمل يا صديقي ؟؟..))...
((بالتأكيد تمتلكين القدرة فقط قرري الرحيل وستجدين ألف طريق مفتوح أمامك..لا تجعلي نفسك للضعف سهلة الإنقياد..ستضيع الحياة منك..وستفيقين يوما وتندمين حينما لا ينفع الندم..مازال الوقت ملكك..فلا تترددي فقط إرحلي دون النظر للخلف..دون الخوف من الغد..ألقي بنفسك داخل أول قطار يحملك بعيدا عن هذا المكان ولا تفكري بشيء...ما زالت الفرصة أمامك..أهربي من هذا القبر الذي لا يحتوي سوى صورا لأشباح رحلت...هل عهدت الأحياء تسكن القبور؟؟..)))
((أرحل؟!!كيف سأرحل))
((قلت لك لا تفكري بشيء..فقط فكري أن الغد سيأتي رغما عنا..فكري بأن الشمس ستكون أجمل عندما تشرق عليك في مكان آخر...طالما أننا ما زلنا أحياء لا بد أن نعيش ..شئنا أم أبينا نحن أحياء فلما نقتل الحياة داخلنا...أنفضي غبار الأمس عن عينيك..لتري روعة الغد القادم..أخرجي من هنا لتتنفسي هواء نقيا عوضا عن هذا الهواء المشبع برائحة الموتى...منح الله الحياة لروحك فلا تسلبيها حقها ...))...
إنتفضت كل ذرة من جسدها لما سمعته..سقط الكوب من يدها..لتستقبله الأرض أشلاء ...دون أن تشعر كانت دموعها تغرق وجهها الحزين...
نهض من على مقعده ..إقترب منها و أمسك بيديها...كان يحدثها بعينين تشعان ثقة وتحدي((تعالي معي..من لك هنا؟؟تعالي معي ستجدين حياة أفضل..لما تعيشين بين الصور وأنتي الوحيدة الحية بين كل هذه الجثث الملقاة على الجدران..تعالي فالحياة هناك أجمل ..على أي أرض ستكون بالتأكيد أرحم من هنا..تعالي معي ولا تترددي))...
((لا أستطيع..لن أقوى على الخروج من هنا))...
((سأحملك ..سأفعل أي شيء لتغادري هذا المكان..لن أدع روحا تنبض بين أضلعك مدفونة تحت أنقاض الماضي..)))
بكت بشدة..بينما كانت كلماته تخترق عالمها الصامت...كلما زادت كلماته عري حقيقة حياتها زاد بكاؤها... وبين صوت الحق الصارخ في أحرفه وبهتان الحياة التي تعيشها..جاء نور الفجر ليعلن أن يوما آخر قد حل ...و أن الحياة مازالت مستمرة رغما عن أحزانا تسكننا..رغما عن ماضي يأسرنا..رغما عن يئس يقيدنا...الشمس ستشرق دوما...مسحت أدمعها و نظرت له ((سأذهب معك خذني من هنا لا تتركني أرجوك))....
نهض من مكانه ومد لها يده((من قال أني سأتركك..هيا بنا فما عاد هنا شيئا يبقيك))...
سارت معه..يدها بيده..فتحت الباب وخرجت..لفحها الهواء مرحبا بها((اليوم سأبدأ من جديد))قالتها بصوت عالي وعيناها تقبلان السماء...
أراد أن يغلق الباب خلفهما فأمسكت يده تمنعه((دعه مفتوحا كي يتنفس..دع الشمس تعرف طريقها إليه..يكفيه ما عاشه من سنوات في الظلام))...
سارت بخطوات رشيقة ترقص فرحا ملامحها..يشرق وجهها بنور الأمل..فغدا أجمل ..وطالما في داخلنا روحا تنبض لا بد أن نعيش...الحياة نعمة لا يحق لنا قتلها...
..........................
...........................
إلى إمرأة تنتظر أن تنفض غبار الأمس من على روحها..ولكن أين أنت يا عابر السبيل ؟؟..أين أنت يا من ستحملني بعيدا من هنا؟؟...

نـــــاديــــا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق