الأربعاء، ديسمبر 01، 2010

خلف جدران النسيان


ينهض كل صباح بنشاط...يخرج متأنقا جدا...

من يراه يعتقد للوهلة الأولى أنه ذاهب إلى موعدٍ

هام..يسير بخطوات رشيقة متحديا ستين عاما

من الشقاء...

.............
.............

ويعود في المساء..مطأطأً رأسه..يجر خطواته جرا

خيبة الأمل تجلس بكل غرور على ملامحه

يأس الكون بأكمله يسدل ستائره على عينين

تملأهما الدموع...

..................
...................

هذه حاله منذ سنوات..جيرانه لم يشغلوا أنفسهم

يوما بمعرفة سر هذا الرجل...

إلا هي ..فتاة العشرين عاما التي سكنت في البناية

المقابلة لمنزله منذ شهرين...

كانت تراقبه بهدوء كل صباح وهي تتناول قهوتها

على شرفة منزلها..وعند المساء تكون شاهدا على

هزيمته..عجبت كثيرا من التفاوت الغريب في

حاله بين صباح ومساء....

وقررت أن تعرف سر هذا الغريب...

.............
.............

وكان صباح اليوم التالي...

وكالعادة يخرج هو وسعادة الكون تحلق به

تبعته دون أن يشعر..حاولت أن تماشي خطواته

دون أن ينتبه لتطفلها...

توقف فجأة أمام بناية كبيرة..رفع يديه إلى السماء

وبدء يتلو دعاء بصوتٍ منكسر...

ثم أخذ نفسا عميقا وابتسم بأريحيةٍ تامة...

صعد درجات قادته إلى داخل المبنى...

رفعت بصرها تبحث عن ما يدلها على هوية

المكان..((البريـــــــــــــد))..

إذا هذا مبنى البريد..ولكن ماذا يفعل هنا؟؟..

أيعقل أنه يعمل هنا؟؟لا طبعا فهو على الأرجح

أصبح متقاعدا الآن..

كم هائل من الأسئلة يتصارع داخلها...

جلست على الأرض تنتظر خروجه...

ومضت ساعة تلو ساعة ومازال في الداخل...

علا صوت المؤذن ينادي لصلاة الظهر...

فخرج الموظفون للصلاة...

إلا هو لم يكن معهم...

سارت بخطوات مضطربة إلى داخل المبنى...

كل المكاتب خالية..الهدوء يملأ المكان...

وعندما أقفلت راحلة بعدما يئست من العثور

عليه ترامى إلى مسامعها صوت بكاء يمزق

نياط القلب..أخذت تبحث عن مصدر الصوت

فقادتها قدماها إلى غرفة صناديق البريد...

هالها ما رأته..كان هناك يجلس على سجادة

الصلاة يرفع يديه للسماء..بكاؤه يخنق كلماته

تملأه العبرة وهو يتوسل لله...

لم تتمالك نفسها فكانت الدموع وسيلتها للتعبير

عن حزن سكنها لألمه الذي لم تعرف سببه...

انتبه لوجودها فأنهى صلاته وإلتفت نحوها...

:-من أنتي؟؟..

:_أنا إيمان أسكن في البناية المقابلة لمنزلك..

:_ماذا تفعلين هنا الموظفون في الصلاة الآن

عودي لاحقا لتستلمي بريدك..

:-لكنني لا أنتظر رسائل من أحد..

:_إذا لما أنتي هنا؟؟..

:_بسببك..لحقت بك لأعرف سرك..

نهض من مكانه..وسار إلى الصالة الرئيسية

تبعته وجلست إلى جواره على مقاعد الاستقبال...

وخلال دقائق كان المكان يزدحم بالموظفين

والمراجعين..بقي هو صامتا يقلب بصره بين

الباب وساعة معلقة على الجدار أمامه...

كانت هي تلاحق عيناه بصمت...

ودقت الساعة الثانية ظهرا..لتعلن إنتهاء يوم وظيفي

نهض من على مقعده..وأغلق أزرار معطفه

وخرج من مكتب البريد..لحقت به وقد رأت على

وجهه ذات الأسى الذي تراه كل يوم عند عودته...

حاولت أن تتحدث إليه لتفهم ما لذي يحدث

:-يا عم ماذا تفعل كل يوم هنا؟؟..

أنت لست موظفا هنا فما الذي يأتي بك يوميا

إلى هذا المكان؟؟..

لم تكن توسلاتها إليه كافية لجعله يخترق

حاجز الصمت الذي يحيط عالمه منذ سنوات

بقيت خطواتها ترافق خطواته حتى وصل

إلى منزله..حينها أيقنت أنه لن يعيرها

إهتمام..تركته وتوجهت إلى منزلها..

:-ألا تريدين معرفة سري؟؟..

جاءها صوته بشيرا لنهاية لغزا حيرها

لم تجبه بل سارعت باللحاق به كل ما يشغلها

أن تعرف حكاية مشواره الغريب...

فتح الباب بيدين ترتعش..

:-تفضلي بالدخول..

دلفت إلى بهوا واسعٌ جدا..كل شيء في

منزله يوحي بثراء فاحش..أثاث فخم..

لوحات..نثريات كل ما هنا يدل على عراقة

صاحب المنزل..

جلست على أحد المقاعد..بينما دخل هو إحدى

الغرف..وبعد بضع دقائق عاد إليها يحمل في

يديه ألبوم صور...

ألقاه في حجرها..وجلس على مقعد مجاور لها

:-ها هو سبب ذهابي للبريد كل يوم..

فتحت الألبوم و أخذت تقلب صفحاته

صورا كثيرة تملأه..كانت كلها لشابان وفتاة..

:-أبناؤك؟؟...

:-نعم يا صغيرتي..أبنائي رحلوا منذ سنوات

لم أعرف عنهم شيئا من حينها..حاولت الإتصال

بهم فخاب مسعاي..بحثت عنهم كثيرا فما

عرفت لهم طريقا..وعندما يئست في

العثور عليهم أصبحت أتردد على مكتب البريد

كل يوم فربما تصلني رسالة من أحدهم..

هم يعرفون العنوان جيدا بينما أنا لا أعرف

لهم عنوان..

:-ولكن أين ذهبوا؟؟..ألم يخبروك؟؟..

:-بلى يا صغيرتي..أخبروني أنهم سيسافرون

إلى الخارج بحثا عن حياة أفضل مع أنني لم

أجعلهم يوما بحاجة لشيء..لكن لا فائدة كان

السفر فكرة تسيطر عليهم لم أستطع منعهم

الفتاة تزوجت من صديق أخويها المقرب

ورحلت معهم..وعدوني أن يعودوا

بعد سنتين..وجرت السنتين عشر

سنوات بعدها ولم أعرف عنهم شيئا

في البداية كانوا يتصلون بي ويرسلون

لي رسائل ولكنهم إنقطعوا بعد سفرهم

بسنة ومن حينها و أنا أنتظر عودتهم..

أو حتى رسالة تجعل قلبي يطمئن عليهم..

ولكن لا فائدة ..لا هم عادوا ولا رسائلهم

تعرف طريقا إلى صندوق البريد...

كل يوم أذهب إلى مكتب البريد..و أجلس هناك

حتى ينتهي الدوام ربما تصل رسالة في أي

لحظة ..من يدري ربما سيرسلون لي ذات يوم..

.......................
.......................

أغلقت ألبوم الصور ووضعته على الطاولة..

ثم غادرت المكان وهي لا تجد كلمات تواسي

بها رجلا ينتظر رسالة من أبناء جاحدين

عادت إلى منزلها تكاد تختنق من مشاعر

تجتاح كيانها...

جلست في شرفة منزلها تنظر لبيت الرجل

المسكين..تعلم أنه سيمضي في الغد إلى مشواره

المعتاد..يبحث في صندوق البريد عن رسالة

ينظر إلى الأرض ربما سقطت الرسالة هنا

هو يعلم في أعماق ذاته أن الصندوق خاوي

لكنه يمني نفسه لربما هناك ثمة رسالة ...

وتعود يده خاوية لا شيء فيها سوى تراب علق

عليها من جدران صندوق نسيه ساعي البريد

........................
........................


إلى من أضـــــــــــــــــــــاع عنواني....

ديسمبر 2009م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق