الأربعاء، ديسمبر 01، 2010

صدفة


كانت مسرعة في خطواتها ..لا تكاد تنظر للأرض من كثرة انشغال عينيها في ملاحقة عقارب الساعة...شفتاها تتمتم بهمسات غير مفهومة...
كل ما فيها يوحي بالقلق...
وصلت إلى محطة القطار فلاح في عينيها بريق السعادة..و انفرجت شفتاها بابتسامة تعلن انتصارها..فقد وصلت في الموعد المحدد ولم يفتها القطار...
جلست على مقعدها ..أوسدت رأسها ..وأغمضت عينيها..بدأ الهدوء يقبل كل معالمها ..و أسدلت السكينة ستائرها على تضاريس جسدها المنهك...
أخذ القطار يلهب الطريق بخطواته المعتادة...
وبقيت هي مستسلمة لإغفاءة تشتاق لها...
ومرت ساعة وهي في أحضان غفوتها...
كان صوت بائع الجرائد في القطار كفيلا في إيقاظها...
فتحت عينيها ببراءة الأطفال...فإذ به أمامها...
رجلا في العقد الخامس من عمره..ملامحه تروي تاريخا من معاناة..رائحة الإغتراب تفوح من مسامه المجهدة...وللزمن على صفحات وجهه روايات ...نظرت له بتمعن ..كان النوم ما يزال محيطا بها ..نظراتها الكسلى أخذت تغزو ذلك الغريب الذي يقبع على مقعد أمامها...إبتسمت عندما رأت بقايا خيوط شمس النهار تداعب خصال شعره ..أعجبها التناغم الجميل بين ضوء الشمس المنكسر وتصارع ليل شعره المنهزم مع خصلات بيضاء قررت فرض هيمنتها ....
كان منشغلا في قراءة كتاب بين يديه...
لم ينتبه لتلك العينان التي تتسكع على تفاصيله...
أغلق الكتاب ..و أخرج من معطفه علبة السجائر فأشعل سيجارة وأخذ يحلق عبر نافذة القطار إلى أبعد مدى...كان ينفث الدخان لكأنه ينفث أشلاء من روحه...
بقيت هي تتأمله كما لو كان لوحة نسيها الزمان معلقة على جدران متحف...
مر من جوارهما شاب ينادي((قهوة..شاي..))
أشارت له بيدها ((أحضر لي كوبا من القهوة لو سمحت))..عندها جاء صوت الغريب ((سادة ولا تنسى أن تحضر لي كوبا أيضا ))...
رحل الشاب ولم يبقى إلا صدى صوته((في الحال سيدي))..
نظرت إليه بدهشة علت ملامحها الرقيقة((كيف عرفت أنني أشرب القهوة سادة؟؟))...
لم يجبها..اكتفى بابتسامة خجلى وعاد حيث كان يحلق في اللا شيء...
غضبت لتجاهله ولكنها لم تلح في سؤالها..
جاءت القهوة وأخذت تتناولها بصمت..
مد الغريب يده لها ((سيجارة؟؟))..
أخذتها بصمت..فاقترب منها ليشعلها لها..
سألها دون أن ينظر لها((بما كنت تتمتمين في المحطة؟؟))..
تملكتها الدهشة إذ كان يراقبها..
((لا شيء كنت فقط أرجو من الله أن لا يفوتني القطار))..
وضع فنجانه جانبا و أشعل سيجارة أخرى...
أسند رأسه إلى المقعد وأخذ يتحدث بصوت تملأه الحكمة((وماذا لو فاتك؟؟ستأخذين القطار الذي بعده..أنظري حولك أترين كل هؤلاء الناس..كل واحد منهم فاته قطار ذات يوم..بعضهم أسعفه الحظ فلحق بالقطار التالي..وبعضهم ساء حظه فلم يجد قطارا يقله..ماذا لو فاتتك رحلة كم من رحلة تفوتنا كل لحظة ..ورغم كل شيء نصر على الانتظار فربما واتانا الحظ ذات غفلة من الزمن))...
((هل فاتك القطار يوما؟))..
ضحك ونظر إليها..إقترب منها وكأنه يبوح بسر عظيم((يا صغيرتي فاتني أهم قطار..قطار كان يوما سيحملني إلى وطني..ولكنني تأخرت كثيرا فلم ينتظرني))..
((كنت أعلم))قالتها بصوت مرتفع وكأنها أثبتت حقيقة كبرى..
((ما لذي كنت تعلمينه))؟؟..
((أنك مغترب عن وطنك..كل ما بك يصرخ بذلك..جسدك يعبق برائحة محطات الإنتظار..تراب السفر ما زال عالقا بأطراف معطفك..))...
((آه يا صغيرتي كنت أعلم أن هاتين العينان تمتلك القدرة لاختراق ما خلف الجدران المغلقة
لم تخنك فراستك هذه المرة))..
و إستمر الحديث بينهما مدا وجزرا..كانت منبهرة بكل كلمة تغادر شفتيه المتعبة..أحرفه المجهدة تتكئ على بقايا أنفاسه المتقطعة..أخذت تنصت بشغف لكل ما يقول ..تشكر في أعماقها القدر أن خط لها صدفة كهذه من أجمل ما حصل لها في حياتها..كل ذرة من كيانها تدعو بخشوع أن لا ينتهي هذا الحوار ..ولكن كعادتها الحياة تعلن سريعا أن عمر السعادة كعمر الزهور...
توقفت عجلات القطار ..وإنتهت الرحلة..
قالت له بلهفة تستعطفه أن لا يغادر((هل ستنزل الآن؟؟ ))..
((لا يا صغيرتي..أنا لا أنزل أبدا من هذا القطار..هنا أجلس منذ سنوات..أنتظر أن يصل حيث أريد))..
((ولكن أنا وصلت ويجب أن أنزل))..
((اذهبي ..فهنا تنتهي رحلتك))..
((و أنت ؟؟))..
((قلت لك هنا مكاني ..لم أصل إلى المحطة التي أريد حتى الآن..اذهبي يا صغيرتي..فلي حديث آخر مع راكب آخر سيجلس حيث كنت تجلسين))...
نهضت تحمل جسدها عنوة..تحاول انتزاع عينيها من عليه بالقوة..
سارت بخطوات يائسة ترفض الرحيل عنه..
جاءها صوته((يا صغيرتي ))
عادت إليه مسرعة((هل ستنزل معي؟؟))..
((بل أردت أن أهديك هذا الكتاب))..
تناولته بيد ترتجف ((شكرا لك..كنت سعيدة بلقائك..و أسعد بحديثي معك))...
((بل شكرا لك أنت ..يا صغيرتي الحزينة))..
نزلت من القطار..وبقيت واقفة حتى استقله ركاب آخرين..كانت تسأل نفسها ترى من سيجلس مكاني؟؟..
رحل القطار من جديد..يخط قصة جديدة بين مغترب يقيم فيه وراكب مؤقت...
نظرت إلى الكتاب وابتسمت منكسرة حزينة...
هبت نسمات هواء شديدة فسقط الكتاب من يدها وانفتحت صفحاته أمامها ..قرأت على أولى صفحاته ((إهداء إلى صغيرتي الحزينة...
لا تيأسي إن فاتك القطار يوما..سيكون هناك دائما قطار آخر))وتبع هذه الكلمات توقيعه بأحرف اسمه الأولى..((ح.ي))
أغلقت الكتاب سريعا تبحث عن إسم المؤلف على غلافه..
فوجدته..إنه هو ..نعم هو مؤلف الكتاب..
لم يشغلها كيف كتب الإهداء لها مع أن عينيها لم تغادره لحظة ..كل ما كان يشغلها كيف أنها كانت تجلس مع هذا الأديب الكبير وهي لا تعرف أنه هو..
احتضنت الكتاب بشدة بعد أن قبلته ..
ونظرت للسماء .. أدمعها تستبق أحرفها الحزينة  
((يا رب شكرا لك أن منحتني هذه الفرصة العظيمة ..شكرا لك أن جعلت كتاب حياتي يحتوي عطر رجل من أعظم الرجال ))...
حملت حقيبتها..وسارت بخطى هادئة فقد تعلمت أن ما سيفوتها لن يؤجله سرعة خطواتها....

..........................................
.........................................

إلى أجمل صدفة في حيــــــــــاتي..

نــــــــــــــاديــــــــــــا...
2009م



هناك تعليق واحد:

  1. نـاديـا
    مبدعه تبآرك الرحمن
    تقبلي مروري ياغاليه

    ردحذف